فصل: تفسير الآيات (1- 6):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (75- 96):

{فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآَنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (80) أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82) فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (87) فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96)}
قرأ الجمهور: {فلا أقسم}، فقيل: لا زائدة مؤكدة مثلها في قوله: {لئلا يعلم أهل الكتاب} والمعنى: فاقسم. وقيل: المنفي المحذوف، أي فلا صحة لما يقول الكفار. ثم ابتدأ أقسم، قاله سعيد بن جبير وبعض النحاة؛ ولا يجوز، لأن في ذلك حذف اسم لا وخبرها، وليس جواباً لسائل سأل، فيحتمل ذلك، نحو قوله {لا} لمن قال: هل من رجل في الدار؟ وقيل: توكيد مبالغة ما، وهي كاستفتاح كلام شبهه في القسم، إلا في شائع الكلام القسم وغيره، ومنه.
فلا وأبي أعدائها لا أخونها

والأولى عندي أنها لام أشبعت فتحتها، فتولدت منها ألف، كقوله:
أعوذ بالله من العقراب

وهذا وإن كان قليلاً، فقد جاء نظيره في قوله: {فاجعل أفئيدة من الناس} بياء بعد الهمزة، وذلك في قراءة هشام، فالمعنى: فلأقسم، كقراءة الحسن وعيسى، وخرج قراءة الحسن أبو الفتح على تقدير مبتدأ محذوف، أي فلأنا أقسم، وتبعه على ذلك الزمخشري. وإنما ذهبا إلى ذلك لأنه فعل حال، وفي القسم عليه خلاف. فالذي اختاره ابن عصفور وغيره أن فعل الحال لا يجوز أن يقسم عليه، فاحتاجوا إلى أن يصوروا المضارع خبراً لمبتدأ محذوف، فتصير الجملة اسمية، فيقسم عليها. وذهب بعض النحويين إلى أن جواز القسم على فعل الحال، وهذا الذي اختاره فتقول: والله ليخرج زيد، وعليه قول الشاعر:
ليعلم ربي أن بيتي واسع

وقال الزمخشري: في قراءة الحسن، ولا يصح أن تكون اللام لام قسم لأمرين، أحدهما: أن حقها أن تقرن بها النون المؤكدة، والإخلال بها ضعيف قبيح؛ والثاني: أن لأفعلنّ في جواب القسم للاستقبال، وفعل القسم يجب أن يكون للحال. انتهى. أما الأمر الأول ففيه خلاف، فالذي قاله قول البصريين، وأما الكوفيون فيختارون ذلك، ولكن يجيزون تعاقبهما، فيجيزون لأضربن زيداً، واضربن عمراً. وأما الثاني فصحيح، لكنه هو الذي رجح عندنا أن تكون اللام في لا أقسم لام القسم، وأقسم فعل حال، والقسم قد يكون جواباً للقسم؛ كما قال تعالى: {وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى} فاللام في {وليحلفن} جواب قسم، وهو قسم، لكنه لما لم يكن حلفهم حالاً، بل مستقبلاً، لزمت النون، وهي مخلصة المضارع للاستقبال. وقرأ الجمهور: {بمواقع} جمعاً؛ وعمر وعبد الله وابن عباس وأهل المدينة وحمزة والكسائي: بموقع مفرداً، مراداً به الجمع. قال ابن عباس وعكرمة ومجاهد وغيرهم: هي نجوم القرآن التي أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويؤيد هذا القول قوله: {إنه لقرآن}، فعاد الضمير على ما يفهم من قوله: {بمواقع النجوم}، أي نجوم القرآن. وقيل: النجوم: الكواكب ومواقعها. قال مجاهد وأبو عبيدة: عند طلوعها وغروبها. وقال قتادة: مواقعها: مواضعها من السماء. وقال الحسن: مواقعها عند الانكدار يوم القيامة.
وقيل: عند الانفضاض أثر العفاري، ومن تأول النجوم على أنها الكواكب، جعل الضمير في إنه يفسره سياق الكلام، كقوله: {حتى توارت بالحجاب} وفي إقسامه تعالى بمواقع النجوم سر في تعظيم ذلك لا نعلمه نحن، وقد أعظم ذلك تعالى فقال: {وإنه لقسم لو تعلمون عظيم}. والجملة المقسم عليها قوله: {إنه لقرآن كريم}، وفصل بين القسم وجوابه؛ فالظاهر أنه اعتراض بينهما، وفيه اعتراض بين الصفة والموصوف بقوله: {لو تعلمون}. وقال ابن عطية: {وإنه لقسم} تأكيد للأمر وتنبيه من المقسم به، وليس هذا باعتراض بين الكلامين، بل هذا معنى قصد التهمم به، وإنما الاعتراض قوله: {لو تعلمون}. انتهى. وكريم: وصف مدح ينفي عنه مالا يليق به. وقال الزمخشري: {كريم}: حسن مرضي في جنسه من الكتب، أو نفاع جم المنافع، أو كريم على الله تعالى. {في كتاب مكنون}: أي مصون. قال ابن عباس ومجاهد: الكتاب الذي في السماء. وقال عكرمة: التوراة والإنجيل، كأنه قال: ذكر في كتاب مكنون كرمه وشرفه، فالمعنى على هذا الاستشهاد بالكتب المنزلة. وقيل: {في كتاب مكنون}: أي في مصاحف للمسلمين مصونة من التبديل والتغيير، ولم تكن إذ ذاك مصاحف، فهو إخبار بغيب.
والظاهر أن قوله: {لا يمسه إلا المطهرون} وصف لقرآن كريم، فالمطهرون هم الملائكة. وقيل: {لا يمسه} صفة لكتاب مكنون، فإن كان الكتاب هو الذي في السماء، فالمطهرون هم الملائكة أيضاً: أي لا يطلع عليه من سواهم، وكذا على قول عكرمة: هم الملائكة، وإن أريد بكتاب مكنون الصحف، فالمعنى: أنه لا ينبغي أن يمسه إلا من هو على طهارة من الناس. وإذا كان {المطهرون} هم الملائكة، {فلا يمسه} نفي، ويؤيد المنفي ما يمسه على قراءة عبد الله. وإذا عنى بهم المطهرون من الكفر والجنابة، فاحتمل أن يكون نفياً محضاً، ويكون حكمه أنه لا يمسه إلا المطهرون، وإن كان يمسه غير المطهر، كما جاء: «لا يعضد شجرها»، أي الحكم هذا، وإن كان قد يقع العضد. واحتمل أن يكون نفياً أريد به النهي، فالضمة في السين إعراب. واحتمل أن يكون نهياً فلو فك ظهر الجزم، ولكنه لما أدغم كان مجزوماً في التقدير، والضمة فيه لأجل ضمة الهاء، كما جاء في الحديث: «إنا لم نرده عليك»، إلا إنا جزم، وهو مجزوم، ولم يحفظ سيبويه في نحو هذا من المجزوم المدغم المتصل بالهاء ضمير المذكر إلا الضم. قال ابن عطية: والقول بأن لا يمسه نهي، قول فيه ضعف، وذلك أنه إذا كان خبراً، فهو في موضع الصفة وقوله بعد ذلك {تنزيل} صفة، فإذا جعلناه نهياً، جاء معناه أجنبياً معترضاً بين الصفات، وذلك لا يحسن في وصف الكلام فتدبره. وفي حرف ابن مسعود ما يمسه، وهذا يقوي ما رجحته من الخبر الذي معناه حقه وقدره أن لا يمسه إلا طاهر.
انتهى.
ولا يتعين أن يكون {تنزيل} صفة، بل يجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف، فيحسن إذ ذاك أن يكون {لا يمسه} نهياً. وذكروا هنا حكم مس المصحف، وذلك مذكور في الفقه، وليس في الآية دليل على منع ذلك. وقرأ الجمهور: {المطهرون} اسم مفعول من طهر مشدّداً؛ وعيسى: كذلك مخففاً من أطهر، ورويت عن نافع وأبي عمرو. وقرأ سلمان الفارسي: المطهرون، بخف الطاء وشد الهاء وكسرها: اسم فاعل من طهر، أي المطهرين أنفسهم؛ وعنه أيضاً المطهرون بشدهما، أصله المتطهرون، فأدغم التاء في الطاء، ورويت عن الحسن وعبد الله بن عوف. وقرئ: المتطهرون. وقرئ: تنزيلاً بالنصب، أي نزل تنزيلاً، والإشارة في: {أفبهذا الحديث} للقرآن، و{أنتم}: خطاب للكفار، {مدهنون}، قال ابن عباس: مهاودون فيما لا يحل. وقال أيضاً: مكذبون. {وتجعلون رزقكم}: أي شكر ما رزقكم الله من إنزال القرآن عليكم تكذيبكم به، أي تضعون مكان الشكر التكذيب، ومن هذا المعنى قول الراجز:
مكان شكر القوم عند المنن ** كي الصحيحات وفقء الأعين

وقرأ عليّ وابن عباس: وتجعلون شكركم، وذلك على سبيل التفسير لمخالفته السواد. وحكى الهيثم بن عدي أن من لغة أزد شنؤه ما رزق فلان فلاناً، بمعنى: ما شكره. قيل: نزلت في الأنواء، ونسبة السقيا إليها، والرزق: المطر، فالمعنى: ما يرزقكم الله من الغيب. وقال ابن عطية: أجمع المفسرون على أن الآية توبيخ للقائلين في المطر، هذا بنوء كذا وكذا، وهذا بنوء الأسد، وهذا بنوء الجوزاء، وغير ذلك. وقرأ الجمهور: {تكذبون} من التكذيب؛ وعليّ والمفضل عن عاصم: من الكذب، فالمعنى من التكذيب أنه ليس من عند الله، أي القرآن أو المطر، حيث ينسبون ذلك إلى النجوم. ومن الكذب قولهم: في القرآن سحر وافتراء، وفي المطر من الأنواء.
{فلولا إذا بلغت الحلقوم وأنتم حينئذ تنظرون}، قال الزمخشري: ترتيب الآية: فلولا ترجعونها إذا بلغت الحلقوم إن كنتم غير مدينين، فلولا الثانية مكررة للتوكيد، والضمير في ترجعونها للنفس. وقال ابن عطية: توقيف على موضع عجز يقتضي النظر فيه أن الله مالك كل شيء. {وأنتم}: إشارة إلى جميع البشر، {حينئذ}: حين إذ بلغت الحلقوم، {تنظرون}: أي إلى النازع في الموت. وقرأ عيسى: حينئذ بكسر النون اتباعاً لحركة الهمزة في إذ، {ونحن أقرب إليه منكم} بالعلم والقدرة، {ولكن لا تبصرون}: من البصيرة بالقلب، أو {أقرب}: أي ملائكتنا ورسلنا، {ولكن لا تبصرون}: من البصر بالعين. ثم عاد التوقيف والتقدير ثانية بلفظ التخصيص. والمدين: المملوك. قال الأخطل:
ربت ورباني في حجرها ابن مدينة

قيل: ابن مملوكة يصف عبداً ابن أمة، وآخر البيت:
تراه على مسحانة يتوكل

والمعنى: فلولا ترجعون النفس البالغة إلى الحلقوم إن كنتم غير مملوكين وغير مقهورين.
{إن كنتم صادقين} في تعطيلكم وكفركم بالمحيي المميت المبدئ المعيد، إذ كانوا فيما ذهبوا إليه من أن القرآن سحر وافتراء، وأن ما نزل من المطر هو بنوء، كذا تعطيل للصانع وتعجيز له. وقال ابن عطية: قوله {ترجعونها} سد مسد جوابها، والبيانات التي تقتضيها التخصيصات، وإذا من قوله: {فلولا إذا}، وإن المتكررة، وحمل بعض القول بعضاً إيجازاً واقتصاراً. انتهى. وتقول: {إذا} ليست شرطية، فتسد {ترجعونها} مسد جوابها، بل هي ظرف غير شرط معمول لترجعونها المحذوف بعد فلولا، لدلالة ترجعونها في التخصيص الثاني علي، فجاء التخصيص الأول مقيداً بوقت بلوغ الحلقوم، وجاء التخصيص الثاني معلقاً على انتفاء مربوبيتهم، وهم لا يقدرون على رجوعها، إذ مربوبيتهم موجودة، فهم مقهورون لا قدرة لهم.
{فأما إن كان}: أي المتوفى، {من المقرّبين}: وهم السابقون. وقرأ الجمهور؛ {فروح}، بفتح الراء؛ وعائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وابن عباس، والحسن، وقتادة، ونوح القارئ، والضحاك، والأشهب، وشعيب بن الحبحاب، وسليمان التيمي، والربيع بن خيثم، ومحمد بن عليّ، وأبو عمران الجوني، والكلبي، وفياض، وعبيد، وعبد الوارث عن أبي عمرو، ويعقوب بن صيان، وزيد، ورويس عنه: بضمها. قال الحسن: الروح: الرحمة، لأنها كالحياة للمرحوم. وقال أيضاً: روحه تخرج في ريحان. وقيل: الروح: البقاء، أي فهذان له معاً، وهو الخلود مع الرزق. وقال مجاهد: الريحان: الرزق. وقال الضحاك: الاستراحة. وقال أبو العالية وقتادة والحسن أيضاً: الريحان، هذا الشجر المعروف في الدنيا، يلقى المقرب ريحاناً من الجنة. وقال الخليل: هو ظرف كل بقلة طيبة فيها أوائل النور. وقال صلى الله عليه وسلم، في الحسن والحسين، رضي الله تعالى عنهما: «هما ريحانتاي من الدنيا». وقال ابن عطية: الريحان: مما تنبسط به النفوس، {فروح}: فسلام، فنزل الفاء جواب أما تقدم. أما وهي في تقدير الشرط، وإن كان من المقربين، وإن كان من أصحاب اليمين، وإن كان من المكذبين الضالين شرط؛ وإذا اجتمع شرطان، كان الجواب للسابق منهما. وجواب الثاني محذوف، ولذلك كان فعل الشرط ماضي للفظ، أو مصحوباً بلم، وأغنى عنه جواب أما، هذا مذهب سيبويه. وذهب أبو عليّ الفارسي إلى أن الفاء جواب إن، وجواب أما محذوف، وله قول موافق لمذهب سيبويه. وذهب الأخفش إلى أن الفاء جواب لأمّا، والشرط معاً، وقد أبطلنا هذين المذهبين في كتابنا المسمى بالتذييل والتكميل في شرح التسهيل، والخطاب في ذلك للرسول صلى الله عليه وسلم، أي لا ترى فيهم يا محمد إلا السلامة من العذاب. ثم لكل معتبر من أمّته صلى الله عليه وسلم قبل لمن يخاطبه: {من أصحاب اليمين}. فقال الطبري: المعنى: فسلام لك أنت من أصحاب اليمين. وقال قوم: المعنى: فيقال لهم: مسلم لك إنك من أصحاب اليمين. وقيل: فسلام لك يا صاحب اليمين من إخوانك أصحاب اليمين، أي يسلمون عليك، كقوله: {إلا قيلاً سلاماً سلاماً}.
والمكذبون الضالون هم أصحاب المشأمة، أصحاب الشمال. وقرأ الجمهور: وتصلية رفعاً، عطفاً على {فنزل}؛ وأحمد بن موسى والمنقري واللؤلؤي عن أبي عمرو: بحر عطفاً على {من حميم}. ولما انقضى الإخبار بتقسيم أحوالهم وما آل إليه كل قسم منهم، أكد ذلك بقوله: {إن هذا}: أي إن هذا الخبر المذكور في هذه السورة {هو حق اليقين}، فقيل: هو من إضافة المترادفين على سبيل المبالغة، كما تقول: هذا يقين اليقين وصواب الصواب، بمعنى أنها نهاية في ذلك، فهما بمعنى واحد أضيف على سبيل المبالغة. وقيل: هو من إضافة الموصوف إلى صفته جعل الحق مبايناً لليقين، أي الثابت المتيقن.
ولما تقدم ذكر الأقسام الثلاثة مسهباً الكلام فيهم، أمره تعالى بتنزيهه عن ما لا يليق به من الصفات. ولما أعاد التقسيم موجزاً الكلام فيه، أمره أيضاً بتنزيهه وتسبيحه، والإقبال على عبادة ربه، والإعراض عن أقوال الكفرة المنكرين للبعث والحساب والجزاء. ويظهر أن سبح يتعدى تارة بنفسه، كقوله: {سبح اسم ربك الأعلى} ويسبحوه؛ وتارة بحرف الجر، كقوله: {فسبح باسم ربك العظيم}، والعظيم يجوز أن يكون صفة لاسم، ويجوز أن يكون صفة لربك.

.سورة الحديد:

.تفسير الآيات (1- 6):

{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآَخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (5) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (6)}
والتسبيح هنا عند الأكثرين بمعنى التنزيه المعروف في قولهم: سبحان الله، فقيل: هو حقيقة في الجميع، وقيل: فيمن يمكن التسبيح منهم، وقيل: مجاز، بمعنى: أن أثر الصنعة فيها ينبه الرائي على التسبيح. وقيل: التسبيح هنا الصلاة، ففي الجماد بعيد، وفي الكافر سجود ظله صلاته، وفي المؤمن ذلك سائغ، واللام في {لله}، إما أن تكون بمنزلة اللام في: نصحت لزيد، يقال: سبح الله، كما يقال؛ نصحت زيداً، فجيء باللام لتقوية وصول الفعل إلى المفعول؛ وإما أن تكون لام التعليل، أي أحدث التسبيح لأجل الله، أي لوجهه خالصاً.
{يحيي ويميت}: جملة مستقلة لا موضع لها من الإعراب لقوله: {له ملك السماوات والأرض}. لما أخبر بأنه له الملك، أخبر عن ذاته بهذين الوصفين العظيمين اللذين بهما تمام التصرف في الملك، وهو إيجاد ما شاء وإعدام ما شاء، ولذلك أعقب بالقدرة التي بها الإحياء والإماتة. وجوز أن يكون خبر مبتدأ، أي هو يحيي ويميت. وأن يكون حالاً، وذو الحال الضمير في له، والعامل فيها العامل في الجار والمجرور. {هو الأول}: الذي ليس لوجوده بداية مفتتحة، {والآخر}: أي الدائم الذي ليس له نهاية منقضية. وقيل: الأول الذي كان قبل كل شيء، والآخر الذي يبقى بعد هلاك كل شيء. {والظاهر} بالأدلة ونظر العقول في صفته، {والباطن} لكونه غير مدرك بالحواس. وقال أبو بكر الورّاق: الأول بالأزلية، والآخر بالأبدية. وقيل: {الظاهر} العالي على كل شيء، الغالب له من ظهر عليه إذا علاه وغلبه؛ {والباطن}: الذي بطن كل شيء، أي علم باطنه. وقال الزمخشري؛ فإن قلت: فما معنى الواو؟ قلت: الواو الأولى معناها الدلالة على أنه الجامع بين الصفتين الأولية والآخرية؛ والثانية على أنه الجامع بين الظهور والخفاء؛ وأما الوسطى فعل أنه الجامع بين مجموع الصفتين الأوليين ومجموع الصفتين الأخريين. فهو المستمر الوجود في جميع الأوقات الماضية والآتية، وهو في جميعها ظاهر وباطن. جامع الظهور بالأدلة والخفاء، فلا يدرك بالحواس؛ وفي هذا حجة على من جوز إدراكه في الآخرة بالحاسة. انتهى، وفيه دسيسة الاعتزال.
{يعلم ما يلج في الأرض} من المطر والأموات وغير ذلك، {وما يخرج منها} من النبات والمعادن وغيرها، {وما ينزل من السماء} من الملائكة والرحمة والعذاب وغيره، {وما يعرج فيها} من الملائكة وصالح الأعمال وسيئها، {وهو معكم أين ما كنتم}: أي بالعلم والقدرة. قال الثوري: المعني علمه معكم، وهذه آية أجمعت الأمّة على هذا التأويل فيها، وأنها لا تحمل على ظاهرها من المعية بالذات، وهي حجة على من منع التأويل في غيرها مما يجري مجراها من استحالة الحمل على ظاهرها. وقال بعض العلماء: فيمن يمتنع من تأويل ما لا يمكن حمله على ظاهره، وقد تأول هذه الآية، وتأول الحجر الأسود يمين الله في الأرض، لو اتسع عقله لتأول غير هذا مما هو في معناه. وقرأ الجمهور؛ {ترجع}، مبنياً للمفعول؛ والحسن وابن أبي إسحاق والأعرج: مبنياً للفاعل؛ والأمور عام في جميع الموجودات، أعراضها وجواهرها. وتقدم شرح ما قبل هذا وما بعده، فأغنى عن إعادته.